سورة الشورى - تفسير التفسير القرآني للقرآن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشورى)


        


{حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)}.
التفسير:
قوله تعالى: {حم عسق.}.
هذه أحرف خمسة بدأت بها السورة الكريمة.. وذلك العدد هو غاية ما بدىء به من حروف مقطعة، على حين قد بدئت بعض السور بحرف واحد مثل ص و ق و ن كما بدئت بعض السور بحرفين مثل: {طه} و{طس} و{يس} و{حم} وبعضها بثلاثة أحرف مثل: {الم} و{الر} و{طسم} وبعضها بأربعة أحرف مثل {المص} و{المر}.
ومما يلفت النظر في هذا، أن الكلمة العربية قد تبنى على حرف واحد، مثل ق فعل أمر من وقى أو حرفين مثل قل فعل أمر من قال، أو ثلاثة أحرف.. مثل قرأ وسجد أو أربعة أحرف مثل بعثر وزلزل أو خمسة أحرف مثل تلعثم.
وعلى هذا يمكن أن ينظر إلى هذه الحروف المقطّعة على أنها أفعال، أو أسماء، ذات دلالات خاصة، يعرفها النبىّ ويرى في أضوائها ما لا يراه غيره وقد يشاركه في هذه الرؤية بعض المؤمنين الراسخين في العلم منهم.
وفى هذه الرؤية ينكشف كثير من الأسرار والمعارف، التي تحويها هذه الأحرف في كيانها.. فهى أشبه بصناديق مغلقة على كنوز من الأسرار والمعارف، يأخذ منها النبىّ ما شاء، على حين لا تأذن بشىء منها إلا لذوى البصائر من عباد اللّه الصالحين المقرّبين، ثم تظل مغلقة على أسرارها دون من ليسوا من أهلها.
وعلى هذا الفهم، نستطيع أن نردّ الإشارة في قوله تعالى: {كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
إلى هذه الأحرف، وأن اللّه سبحانه وتعالى قد أوحى إلى نبيه الكريم بهذه الأحرف التي تحمل في كيانها دلالات يعرف النبىّ تأويلها، بما آتاه اللّه من علم، شأنه في هذا شأن الأنبياء من قبله، الذين أوحى اللّه سبحانه وتعالى إليهم بمثل ما أوحى إليه به من هذه الأحرف، التي هى رموز إلى أمور يعرفون هم تأويلها، ويشاركهم بنسب مختلفة في المعرفة بعض أتباعهم وحواريهم، من الراسخين في العلم.
فالمراد- واللّه أعلم- بما يوحى به اللّه سبحانه وتعالى إلى النبىّ هنا، هو بعض ما يوحى إليه، لا كلّه، وهو تلك الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض السور، لا كلّ ما أوحى به إليه.
وفى قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ}.
إشارة إلى أن هذا الوحى الذي تلقى به النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه هذه الأحرف، لم يكن عن طريق الملك الذي اعتاد أن يلقاه، فيتلقّى منه ما أذن اللّه بوحيه إليه من آياته وكلماته.
وإنما كان كلاما من ربّه، على تلك الصفة التي أشار إليها سبحانه في قوله:
{وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً}.
أي إلهاما منه سبحانه، حيث يجد الرسول كلمات ربّه قائمة في صدره، مستولية على كيانه كلّه.. وهذا ما يشير إليه الرسول في قوله: {إن روح القدس نفخ في روعى}.
ومن هنا كان لهذه الأحرف هذا المقام الكريم، في كتاب اللّه الكريم، فكانت تلك الأحرف على رأس السّور التي نزلت معها.
هذا، وسنزيد الأمر بيانا في آخر السورة، عند تفسير قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ}.
قوله تعالى: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}.
إشارة إلى ما لقدرة اللّه سبحانه وتعالى، من سلطان قاهر، يخضع له كل موجود في هذا الوجود.. فهو- سبحانه- الخالق المالك المدبّر لكل ما في السموات وما في الأرض.. وهو {الْعَلِيُّ} الذي يعلو بسلطانه على كل سلطان.
العظيم الذي تذل لعظمته كل عظمة، وكل عظيم.
قوله تعالى: {تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
أي إنه لجلال اللّه سبحانه ولعظمته ورهبوته، تكاد السماوات يتفطرن من {فَوْقِهِنَّ} أي يتشققن ويسقطن من علوّهن، فيقع بعضهن على بعض.
فالضمير في {فَوْقِهِنَّ} يعود إلى السموات.. أي أنها تكاد تسقط من عليائها، هيبة وجلالا للّه سبحانه.. وان الانفطار، وهو التشقق، هو من الخشية والجلال لهذا القرآن الموحى به إلى النبي، والذي لا يتأثر به هؤلاء المشركون، أصحاب القلوب القاسية.. وأن التشقق الذي يكاد يفتت السماوات، لا يقع- وحسب- من الجهة المواجهة للأرض، لما نزل عليها من كلام اللّه، بل يبلغ أقطارها العليا، وينفذ إلى أعلى سماء فيها.
وقوله تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي أن الملائكة وهم من عالم السماء.- عالم النور والطهر-. يسبحون بحمد ربّهم، ويتقربون إليه، ويبتغون مرضاته، بالعبادة والتسبيح: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ}.
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ}.
وقوله تعالى: {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ}.
أي أن من عبادة الملائكة وتسبيحهم للّه، استغفارهم لمن في الأرض.. إذ كان أهل الأرض متلبسين بالخطايا والذنوب.. فهم النقطة السوداء في هذا الوجود النورانى، المشّع ولاء وخضوعا للّه رب العالمين.
والمراد بمن في الأرض هم المؤمنون، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى في آية أخرى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [5: الشورى] وكما يقول سبحانه: (يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا) (7: غافر) وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}.
أي أنه سبحانه يقبل استغفار الملائكة لمن يستغفرون لهم من المؤمنين، فيغفر اللّه سبحانه وتعالى لهم، فهو سبحانه {الْغَفُورُ} أي كثير المغفرة {الرَّحِيمُ}، أي واسع الرحمة، تسع رحمته كل شىء.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ}.
هو معطوف على محذوف مفهوم من قوله تعالى: {أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي أنه سبحانه يغفر للذين تابوا وآمنوا، وأما الذين أشركوا باللّه، واتخذوا من دونه أولياء، ولم يدخلوا في دين اللّه، ولم يتوبوا إليه- فاللّه {حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي ممسك بهم، قائم عليهم، متول حسابهم وجزاءهم.. وليس النبي بمسئول عنهم بعد أن بلغهم رسالة ربه.. {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ} [40: الرعد].
فى هذه الآية إشارة إلى أن هناك وحيا من نوع آخر، غير الوحى الأول الذي جاء في مطلع السورة في قوله تعالى: {كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
وقد قلنا- حسب فهمنا- إن الوحى الذي أشار إليه قوله تعالى: {كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} هو وحي من اللّه بدون وساطة ملك، وأنه المشار إليه في قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ، إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ} فهذا الوحى، وحي من اللّه بدون وساطة.. وقلنا إن هذا الوحى من اللّه سبحانه، هو واقع على الحروف المقطعة التي بدئت بها بعض سور القرآن الكريم.. أما الوحى بوساطة الملك فقد أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا}.
وهذا يشمل القرآن الكريم كلّه، عدا تلك الحروف المقطعة.. ولهذا وصف بأنه قرآن عربى، أي يقرأ ويفهم عند من يحسن العربية ويفهم لغتها.. ولهذا أيضا اتبع بالعلة التي من أجلها كان وحي هذا القرآن، وهى التبليغ والإنذار: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى} أي أهل مكة {وَمَنْ حَوْلَها} أي ومن حولها من أهل القرى والخيام.
ووصف مكة بأنها أم القرى، إشارة إلى أنها ستكون قبلة المسلمين في صلاتهم، ومجتمعهم في حجّهم.
وقوله تعالى: {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ}.
أي وتنذر الناس بلقاء ربهم {يَوْمَ الْجَمْعِ} أي يوم القيامة، حيث يبعث اللّه الناس من قبورهم، ويحشرون إلى ربهم، فيجتمعون جميعا، لا يغيب فرد واحد منهم.
وقوله تعالى: {لا رَيْبَ فِيهِ} الجملة حال من يوم الجمع، أي أن هذا اليوم آت لا شك فيه.
وقوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ، وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} أي أن هذا الجمع الذي يضم الناس جميعا، سينقسم هناك إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.. فلينظر الإنسان إلى نفسه، وإلى أىّ فريق من الفريقين ينتسب.. فإن كان من المؤمنين المصدّقين باللّه وبرسوله، وباليوم الآخر- فهو من فريق أهل الجنة، وإن كان من المكذبين الضالين، فهو في الفريق المدعوّ إلى السعير.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى، قد قضى في عباده أن يكون فريق منهم في الجنة، وفريق في السعير، كما يقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [2: التغابن].. هكذا كانت مشيئة اللّه في عباده.
ولو شاء اللّه سبحانه لجعل الناس أمة واحدة، ولأدخلهم يوم القيامة مدخلا واحدا.
وقوله تعالى: {وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي أنّ من أراد اللّه سبحانه بهم خيرا، هداهم إلى الإيمان، وأدخلهم في رحمته، وأنزلهم منازل جناته ورضوانه.. فضلا منه وإحسانا، وكرما.. جعلنا اللّه منهم.
وقوله تعالى: {وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.
اختلف فيه النظم، فجاء على غير ما يقتضيه ظاهر المقام، الذي يقضى بأن يكون المعادل لقوله تعالى: {وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ} هو: {ويحرم من يشاء منها}.
فما سرّ هذا؟
السرّ- واللّه أعلم- هو أن اللّه سبحانه، هو صاحب المشيئة المطلقة التي لا معقب لها، وهو سبحانه بهذه المشيئة يفعل ما يشاء في خلقه، فيعذّب من يشاء، ويرحم من يشاء.. {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [39: الأنعام].
تلك هى مشيئة اللّه المطلقة الغالبة {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} [68: القصص].
ومع هذه المشيئة الغالبة المطلقة للّه سبحانه، فقد جعل جلّ شأنه للإنسان- فضلا منه وكرما- مشيئة، تقود فطرته، لتلقى مع مشيئة اللّه، وتجرى في محيطها العام المتدفق.
ولكن الإنسان- وبمشيئة اللّه الغالبة- أفسد فطرته، فجمعت به إرادته عن أن يستقيم على سواء السبيل، فكان بهذا ظالما، جائرا عن قصد السبيل القويم.. فالظالم هو الوصف الذي يرد على كل إنسان عاقل رشيد مريد، إذا هو كان في موقع انحرف فيه عن طريق الحق الذي قام عليه الوجود كلّه.
وهذا الانحراف، هو بمشيئة للّه سابقة غالبة، ولكنّ للإنسان كسبا في هذا الانحراف، ومشيئة متلبسة به.
فالأمر في ظاهره، هو: أن هذا الظلم والانحراف من كسب الإنسان، وهو في باطنه بمشيئة غالبة للّه، وقدر سابق! وللّه سبحانه الأمر من قبل ومن بعد: {لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [23: الأنبياء].
قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
أي أن هؤلاء الظالمين، قد اتخذوا من دون اللّه أولياء يرجون نصرهم.
ويبتغون العزّة عندهم.. {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} وحده، لا يملك معه أحد نصرا، ولا عزّا.. {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً} [44: الكهف].
وقوله تعالى: {وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى} إشارة إلى البعث، وأنه حقيقة مقررة، وأن إنكار المنكرين لا ينفعهم من لقاء هذا اليوم، ولا يصرفه عنهم، بل إنهم مبعوثون، ومحاسبون حسابا عسيرا.. {أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [8: هود].
وقوله تعالى: {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تأكيد للبعث، وأن إحياء الموتى واقع في قدرة اللّه التي لا يعجزها شىء.
قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ، ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي، عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
هو معطوف على قوله تعالى: {وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
الذي هو من صفات اللّه سبحانه وتعالى، الذي يحيى الموتى، وبقدر على كل شىء، وإليه مردّ الحكم فيما اختلفتم فيه.. فهو سبحانه الذي يقضى في هذا الاختلاف الذي خرجتم به أيها الظالمون عن دعوة الحقّ، وعن طريق الإيمان.
وقوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
أي قل لهم أيها النبي: ذلكم المتصف بتلك الصفات، هو ربى الذي آمنت به، والذي أدعوكم إليه، الذي عليه توكلت، فجعلت ولائى له، ومعتمدى عليه، والذي إليه أرجع في كلّ أمورى، وأتوب إليه من كل ذنب.
قوله تعالى: {فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
هو من عطف البيان على قوله تعالى: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي}.
أي ربى الذي عليه توكلت وإليه أنيب، هو {فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ}، أي خالقهما، وموجدهما ابتداء، على غير مثال سبق.. ومنه الفطرة، وهى أصل الخلقة.
ويمكن أن يكون هذا وما بعده من قول الرسول الكريم، استكمالا لقوله: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
ويمكن أن يكون من كلام اللّه سبحانه وتعالى، تعقيبا على إقرار الرسول بوحدانية ربّه، وتوكّله عليه.. أي أن هذا الرّبّ الذي اتّخذه الرسول ربّا له، وتوكّل عليه، وأناب إليه- هو فاطر السماوات والأرض.
وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً} أي هذا الربّ الذي خلق السموات والأرض، هو الذي خلقكم، وهو الذي {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً} أي جعل لكم من جنسكم، ومن طبيعتكم أزواجا لتسكنوا إليها، وتألفوا الحياة معها، كما أنه سبحانه قد جعل لكم من الأنعام أزواجا، ذكرا وأنثى لتتوالد، وتتكاثر، وتنتشر بينكم، وتتسع لحاجتكم منها، ركوبا، وحملا، وطعاما.
وقوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ}.
الذّرء: إظهار عوالم المخلوقات، التي كانت مكنونة في علم اللّه سبحانه وتعالى- ومنه الدّرأة، وهى بياض الشيب، لأنه ظهر بعد خفاء.
ومعنى الآية الكريمة، أن اللّه سبحانه بهذا التزاوج بين الرجل والمرأة، كثرّ نسل الإنسان، وأظهر به ما قدّر من مخلوقات بشرية، من أصلاب الآباء، وأرحام الأمهات.
والضمير في {فِيهِ} يعود إلى مصدر مفهوم من قوله تعالى: {أَزْواجاً} أي تزاوجا بين الذكر والأنثى، في عالم الأحياء، من إنسان وحيوان.. فكأن هذا التزاوج هو الظرف، أو الوعاء الذي تتشكل فيه عوالم الأحياء، أي يكثّركم في هذا التزاوج.
وقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}.
هو مبالغة في نفى المثلية عن اللّه سبحانه وتعالى، وذلك ينفى المثلية عن مثله- تعالى اللّه سبحانه أن يكون له مثل.. فإذا انتفت المثلية عن المثل، وهذا المثل- أيا كان- لا يساوى من يماثله- فإن انتفاءها عن الأصل الذي يقاس عليه المثل- أولى- بمعنى أنه ليس كمثل مثل اللّه شيء في هذا الوجود، فما بالك بمن يطلب ليكون مثل اللّه ذاته؟ ذلك مستحيل بعد مستحيل.
قوله تعالى: {لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
المقاليد: جمع مقلد، وهو ما يحيط بالشيء، ومنه القلادة، لأنها تحيط بالعنق.
أي أن اللّه سبحانه وتعالى، له السلطان القائم على السموات والأرض، وبيده سبحانه تصريفهما، لا يملك أحد معه من الأمر شيئا.


{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16)}.
التفسير:
قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}.
أي ومن نعم اللّه سبحانه وتعالى، الذي خلقكم وجعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من الأنعام أزواجا- أنه شرع لكم دينا هو دينه الذي ارتضاه، وهو الدين الذي وصّى به نوحا، وهو الذي جاءكم به نبيكم محمّد، وحيا من ربه، وهو ما وصى به اللّه سبحانه الأنبياء، إبراهيم وموسى، وعيسى، عليهم السلام.
وقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} هو بيان لما وصى اللّه سبحانه به أنبياءه عليهم السلام، وهو أن يقيموا الدين، وأن يبلّغوه أقوامهم، وأن يكونوا جميعا على هذا الدين، دين اللّه الذي ارتضاه لهم جميعا، والّا يتفرقوا فيه، فيكون لكل نبى، ولكل قوم دين.. إن دين اللّه واحد، هو الإسلام، كما يقول سبحانه: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [19: آل عمران] وكما يقول سبحانه: {وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [153: الأنعام].. وكما يقول جل شأنه فيما أخذه من ميثاق على الأنبياء جميعا: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}.
(81: آل عمران) وكما يقول النبي الكريم: «الأنبياء أبناء علّات، أمهاتهم شتّى ودينهم واحد».
وهذه الوصاة للأنبياء، هى وصاة ملزمة لأقوامهم باتباع دين اللّه هذا، وهو الإسلام الذي كمل به الدّين، والذي أدركوه وبين أيديهم بعض منه.
ومطلوب من أهل الكتاب- اليهود والنصارى- أن يؤمنوا بهذا الدين كلّه، وألا يتفرقوا فيه، فيذهب كل فريق ببعض منه، فيكون لكل جماعة دين من دين اللّه الواحد.
وهنا سؤال، وهو: لماذا اختلف النظم في هذا المقطع من الآية الكريمة، فلم يجر على نسق واحد؟ فقال تعالى: {ما وَصَّى بِهِ نُوحاً} ثم قال سبحانه:
{وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى} ولم يجىء النظم هكذا: {وما وصّيناك به} بل جاء هكذا: {وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ}.
فما سر هذا؟
الجواب:- واللّه أعلم- من وجوه: فأولا أن ما أوحى اللّه به سبحانه وتعالى إلى النبي من آياته وكلماته، لم يكن مجرّد وصاة.. بل إنه يحمل مع هذه الوصاة المعجزة التي تدلّ على أنه كلام اللّه، على حين أن ما كان يوحى إلى الأنبياء من وصايا لم يكن كلاما يحمل في طياته معجزة متحدية.. وهذا هو بعض السر في كلمة {أَوْحَيْنا} المقابلة لكلمة {وَصَّيْنا}.
إذ أن الوحى فيه إشارات، ولطائف، لا تنكشف إلا لذوى البصائر والأفهام، على خلاف الوصاة فإنها تجىء صريحة واضحة الدّلالة، تعطى كلماتها كلّ ما فيها مرة واحدة.
وثانيا: أن هذا الوحى يحتاج إلى عقل بتدبّر هذه الكلمات الموحى بها، وهذا يعنى أن المبلّغ إليهم هذا الوحى، ينبغى أن يتدبروه ويعقلوه، وأن يستخلصوا منه مواقع العبر والعظات، وأن يأخذوا منه الأدلة والبراهين على ما يدعوهم إليه من الإيمان باللّه، واليوم الآخر، والتصديق برسوله، وملائكته وكتبه ورسله.
وهذا يعنى- من جهة أخرى- أن المبلّغين برسالات الرسل السابقين لم يكونوا مطالبين باستخلاص الدليل والبرهان على صدق الرسول، وعلى صدق ما جاءهم به من وصايا، إذ كان مع الرسول آية صدقه التي بين يديه من المعجزة أو المعجزات المادية، التي يمكّن اللّه سبحانه وتعالى له منها.
وثالثا: في الوحى بالشيء رفق ولطف بالموحى إليه، ومخاطبته بالإشارة دون العبارة.. وهذا يعنى أن الذين يخاطبون بهذا الوحى هم في درجة من الفطنة والذكاء وكمال العقل، بحيث لا يؤخذون بالزجر والقهر، وإنما يقادون بالحكمة، والمنطق، وهذا ما يتفق والرسالة الإسلامية، التي كمل بها دين اللّه، والتي من شأنها أن تلتقى بأوفر الناس حظّا من الكمال الإنسانى.
وسؤال آخر.
وهو: لما ذا لم يجىء ذكر الأنبياء على نسق في الترتيب الزمنى، فجاء ذكر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، بعد نوح، وقبل إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام؟.
ثم لماذا وقد سبق ذكره- صلوات اللّه وسلامه عليه- إبراهيم وموسى وعيسى- لما ذا لم يسبق نوحا أيضا؟
والجواب- واللّه أعلم- من وجوه كذلك:
فأولا: قدّم النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه، على إبراهيم وموسى وعيسى، لأن رسالته هى مجمع رسالات الأنبياء عليهم السلام، وكتابه الذي أنزل عليه هو المهيمن على الكتب السماوية.. إذ قد جمعت الرسالة الإسلامية ما تفرق في الرسالات السابقة، فكان الإسلام هو الدين كلّه، دين اللّه الذي كان لكل نبى نصيب منه.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} [19: آل عمران] وقوله سبحانه: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [33: التوبة] وقوله سبحانه: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً} [68: المائدة] وقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ} [85: آل عمران].
وهذا يعنى أن من آمن بالرسالات السابقة، وأقامها على وجهها، لا بد أن يسلمه ذلك إلى الإيمان بالإسلام، لأنها من الإسلام، مادة وروحا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [48: المائدة].
وثانيا: قدم نوح- عليه السّلام- لأنه أول الأنبياء أصحاب الرسالات، وقد كانت له دعوة إلى اللّه، وكان له قوم يدعوهم إلى اللّه، وقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما كما ذكر القرآن.. وبهذا تعتبر رسالته مفتتح الرسالات إلى دين اللّه، وهو الإسلام.. فكان تقديمه لازما لهذا الاعتبار.
وثالثا: أن تقديم نوح لم يكن إلا لمجرد الإشارة إلى أن دعوة الإسلام دعوة قديمة قدم الإنسانية، يوم بلغت الإنسانية مبلغ الخطاب والتكليف، ولم يكن لنوح حين جاء الإسلام، قوم أو كتاب، حتى يكون لتقديم الرسول- صلوات اللّه وسلامه عليه- على دعوة نوح حجة على قومه، وهيمنة على كتابه، على خلاف من هم من أتباع إبراهيم وموسى وعيسى، فقد كانوا بمشهد من عصر النبوة، وبمسمع من دعوة النبي، وهم لهذا مطالبون باتباع هذا النبي والإيمان به، وبكتابه المهيمن على ما في صحف إبراهيم، وعلى التوراة والإنجيل.. فقد كان اليهود أتباع موسى، وكتابه التوراة، وكان النصارى أتباع عيسى، وكتابه الإنجيل، وكان المشركون على دين إبراهيم، وإن كانوا جميعا قد تنكّبوا الطريق السّوىّ للدين الذي يدينون به.
وقوله تعالى: {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} هو نحس للمشركين وتبكيت لهم، وازدراء لغرورهم الذي أراهم في أنفسهم هذا الذي باعد بينهم وبين كتاب اللّه، ورسول اللّه، فأنفوا أن يستجيبوا لبشر مثلهم، وأن يتناولوا من يده الدواء الذي يشفى عللهم، ويذهب بأسقامهم.
لقد كبر عليهم هذا، ورأوه مما ينزل بقدرهم وينال من مكانتهم.. وإنه لعجيب غاية العجب، أن يكون هذا موقفهم من كتاب هو المهيمن على الكتب السماوية كلها، ومن رسول هو خاتم الرسل، ورسالته خاتم رسالات السماء، ومن دين هو مجتمع دين اللّه؟ {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ}.
فهذا هو الدين الذي شرعه اللّه سبحانه وتعالى لهم. واصطفى لحمله إليهم صفوة أنبيائه، وخاتم رسله.. فكيف يستقبلون هذه المنّة العظيمة بهذا الكبر الأحمق، وهذا الغرور السفيه؟.
وقوله تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}.
هو تعقيب على موقف هؤلاء المشركين من دعوة اللّه سبحانه وتعالى، التي يدعو بها رسوله الناس إلى اللّه.. إذ ليس كلّ مدعوّ مستجيبا لهذه الدعوة، ولكن اللّه سبحانه وتعالى يختار من بين المدعوين من يدخلهم في ضيافتهم، ويأخذ بيدهم إلى رحاب كرمه وإحسانه، فيستجيبون للداعى مسرعين، في غير تردّد أو إبطاء، وهناك آخرون من بين المترددين والمبطئين سوف يلحقون بهؤلاء السابقين، ويدخلون في ضيافة اللّه سبحانه، إذا هم نزعوا أقدامهم من هذا الموقف المتردد الذي هم فيه، وأخذوا طريقهم إلى اللّه.. إن اللّه سبحانه- سيهديهم إليه، وبيسر لهم سبل الوصول إلى رحاب فضله وإحسانه.. {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}.
وهكذا تختلف منازل الناس عند اللّه.. فأناس يجتبيهم ويختارهم، ويحملهم حملا على مطايا الفضل ومراكب الإحسان.. وأناس ينتظر بهم حتى يكون منهم سعى إليه، واتجاه إلى مواقع رحمته.. وعندئذ تلقاهم عناية اللّه على أول الطريق، فتقودهم إليه، وتنزلهم منازل رضوانه.. وأناس قعدوا حيث هم فأركسوا في ضلالهم.. إنهم لم يكونوا من أهل الاجتباء، فتخف بهم مراكب اللّجا إلى اللّه، ولم يكونوا من ذوى القدرة على السباحة والعوم، الذين تمسك أيديهم بحبل اللّه، فيسلمهم ذلك الحبل إليه.. بل كانوا من غير هؤلاء وأولئك، ممن لم يرد اللّه لهم النجاة، فكانوا من المغرقين.
{أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}.
قوله تعالى: {وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ}.
أي أن أهل الكتاب- من اليهود والنصارى- كانوا على حال واحدة من الكفر والضلال، قبل مبعث الرسل إليهم، فلما بعث اللّه فيهم الرسولين الكريمين- موسى وعيسى- وجاءهم العلم على يديهما، وبيّنا لهم الهدى من الضلال- تفرقوا شيعا، فكانوا يهود ونصارى، وما كان اليهود: مؤمنين، وكافرين، ومنافقين، وكان النصارى: مؤمنين وكافرين ومشركين.. وهكذا تنازع القوم أمرهم، وفرقوا دينهم، كما يقول اللّه سبحانه وتعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ.. ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ} [159: الأنعام].
وقوله تعالى: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}.
أي ولو لا ما سبق من قضاء اللّه، في أن يؤخر حساب هؤلاء المختلفين من أهل الكتاب، إلى أجل مسمّى، موقوت لهم، وهو يوم القيامة- لو لا هذا الذي سبق من قضاء اللّه {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ}، أي لفصل بينهم، وأخذ كل منهم بما يستحق من جزاء في هذه الدنيا، فنجّى الذين آمنوا، ووقع بأس اللّه بالقوم الظالمين.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} الضمير في {مِنْهُ} يعود إلى {الدِّينِ} في قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً} وهو دين الإسلام، الذي يدعو إليه رسول اللّه بالكتاب الذي أنزل إليه من ربه.
والذين أورثوا الكتاب من بعدهم، هم أهل الكتاب، من اليهود والنصارى، الذين عاصروا الدعوة الإسلامية، فهؤلاء الذين يدينون باليهودية والنصرانية، هم الذين أوتوا الكتاب من بعد آبائهم الذين أورثوهم- مع هذا الكتاب الذي في أيديهم- فرقة فيه، واختلافا عليه، وهم لما ورثوا من فرقة وخلاف في دينهم- في شك وارتياب من هذا الدين الإسلامى الذي يدعون إليه، إذ كان دينهم الذي هو من هذا الدين، قد تغيرت معالمه، وطمست وجوهه، فلما التقى بدين اللّه الذي يردّ أصل دينهم إليه- لم يجدوه ملتئما معه، ولا آخذا سبيله، فكان ذلك الشك المريب منهم في دين اللّه! قوله تعالى: {فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ، وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ، وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ، اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ، لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ، لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ، اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}.
الفاء في قوله تعالى: {فَلِذلِكَ} للسببية، والإشارة إلى هذا الخلاف الذي وقع بين أهل الكتاب في دينهم، والذي أدى بهم إلى الشك والارتياب في النبي وفيما يدعو إليه من دين اللّه.
أي فلأجل هذا فلا تلتفت إلى أهل الكتاب، ولا تقف طويلا معهم، إذ كانوا وتلك حالهم من الشك والارتياب.. {فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ} أي فقم بدعوتك، واصدع بما تؤمر، مستقيما عليه، غير ناظر إلى ما يجىء إليك من القوم من جدل ومراء.. {وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ} فإن ما يجادلون به، هو أهواء وضلالات.. {وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ} أي قل آمنت بهذا الكتاب، وبما أنزل اللّه من كتاب سماوى سابق لهذا الكتاب الذي بين يدىّ.
كما يقول اللّه تعالى لنبيه الكريم: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [84: آل عمران].
وتنكير الكتاب في قوله تعالى: {مِنْ كِتابٍ} وجرّه بمن الدالة على الاستغراق- للإشارة إلى أن النبي مؤمن بكل كتاب نزل من عند اللّه.
قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} أي أمرت لأدعوكم إلى دين اللّه، بالعدل والإحسان، لا أكرهكم عليه، ولا أجادلكم إلا بالتي هى أحسن.
وقوله تعالى: {اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ} أي أن الرب الذي أدعوكم إليه ليس ربىّ وحدى، حتى يكون لى مصلحة خاصة في دعوتكم إليه، فهو سبحانه ربكم كما هو ربى.. وفى هذا تعريض باليهود الذين يجعلون اللّه سبحانه وتعالى ربّا لهم وحدهم، يؤثرهم بما عنده من خير وإحسان، فيسمونه ربّ إسرائيل، ويسمونه رب الجنود، ويجعلونه قائدا لجيشهم في الحرب، كما تصرح بذلك التوراة التي في أيديهم، في أكثر من موضع منها.
وقوله تعالى: {لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ} أي أن ما نعمله من خير أو شر، هو لنا وحدنا، ومجزيّون به، على الخير خيرا والسوء سوءا.. وكذلك ما تعملونه أنتم، هو لكم، تجزون به، إن خيرا فخير وإن شرا فشر.. {كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [38: المدثر].
وقوله تعالى: {لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ} أي لا جدل بينا وبينكم حتى تحاجونا ونحاجّكم.. {لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ}.
وقوله تعالى: {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي أن اللّه سبحانه وتعالى، هو الذي يقضى فيما بيننا وبينكم من خلاف، يوم يجمع بيننا جميعا، يوم القيامة، فيقضى بالحق، ويجزى كلّا بما هو أهل له.. {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} والمرجع.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ، حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ، وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}.
{الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} أي يجادلون في دينه، وفى كتابه الذي أنزله على رسوله.. {مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ} أي يجادلون في دينه من بعد أن استجاب له الناس، وآمنوا به، واطمأنوا إلى دين.. فهذا الجدل وإن كان قد يقبل من غير المؤمنين باللّه، فإنه غير مقبول من المؤمنين به، المستجيبين له من أهل الكتاب إذ لا يتفق إيمان باللّه، وجدل فيه.
واليهود هم المقصودون بهذا الحديث، وهم الذين وقع عليهم غضب اللّه في الدنيا، والعذاب الشديد في الآخرة.. فهم مؤمنون باللّه، ولكن إيمانهم هذا مشوب بالباطل والضلال، بما بدلوا وحرفوا في دين اللّه.
ولقد كانوا يعرفون صدق النبي، ويعرفون صدق الدين الذي جاء به،.
ولكنهم جحدوا هذا، حسدا وبغيا، فأوردوا أنفسهم موارد الهلاك، وماتوا ظمأ دون أن يردوا الماء الحاضر بين أيديهم.. وفى هذا يقول اللّه تعالى فيهم: {وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ} [89- 90 البقرة].
وفى إسناد الفعل: {اسْتُجِيبَ لَهُ} إلى غير فاعله، ولم يسند إلى الفاعل هكذا: {من بعد ما استجابوا} إشارة إلى أن استجابتهم لم تكن استجابة خالصة من الشك والارتياب، ولهذا لم يسند فعل الاستجابة إليهم.
وقوله تعالى: {حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي هذا الجدل الذي يجادل به أهل الكتاب من اليهود، وهذه الحجج التي يوردونها للاحتجاج على الرسول بها- هى حجج داحضة، أي باطلة، توقع الممسك بها في مزالق الكفر والضلال.. والدّحض من الأرض: الزلق، الذي تزلّ به الأقدام.. وعليهم غضب في الدنيا، ولهم عذاب شديد في الآخرة.


{اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)}.
التفسير:
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، أن الآية التي قبلها توعّدت الذين يجادلون في اللّه وفى آيات اللّه، من بعد ما استجابوا له، وآمنوا به- توعدتهم ببطلان حجتهم عند اللّه، وبحلول غضبه سبحانه عليهم في الدنيا، وعذابه الشديد لهم في الآخرة- فكان قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ} كان ذلك بيانا لمضمون ما تقرر في الآية السابقة، وأن الذين يحاجون في اللّه وفى الكتاب الذي أنزله من بعد ما استجيب للّه منهم- حجتهم واهية باطلة، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد، لأن اللّه سبحانه هو الذي أنزل هذا الكتاب بالحق، وأقامه في الأرض ميزان عدل وحق بين الناس.. وبهذا الميزان- ميزان الحق والعدل- ستوزن أعمال الناس يوم القيامة {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ} [6- 9: القارعة].
وقوله تعالى: {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} استفهام يراد به التقرير، والإنذار بقرب الساعة، وأن المؤمنين بها، على رجاء اللقاء بيومها.
قوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها، وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها، وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ}.
أي أن الذين لا يؤمنون بالآخرة، ولا يرجون لقاء اللّه، يستعجلون الساعة، استعجال التكذيب والتحدّى، ويقولون: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ}؟
أي متى هذا اليوم؟.
وفى تعدية الفعل {يَسْتَعْجِلُ} بحرف الجر الباء وهو فعل متعد بنفسه، إذ يقال مثلا: يستعجل الذين لا يؤمنون بالآخرة الآخرة- واللّه يقول: (أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) (1- النحل)- إشارة إلى تضمين الفعل معنى المطالبة بها للتعجيز.. أي يطالب بالآخرة، ويستعجلون يومها، أولئك الذين لا يؤمنون بها.
واستعجال الذين لا يؤمنون بالآخرة ليوم القيامة، لأنهم يستعبدون وقوعه، كما أنهم لا يدرون ما يأتيهم منه من أهوال إذا وقع.. {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [13- 14: الذاريات].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} هو بيان لموقف المؤمنين من يوم القيامة، وهو موقف الخائف المشفق، لأنه يوم الحساب والجزاء، ويوم الأهوال والشدائد: {يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [2: الحج].
وفى النظم القرآنى ما يبدو في ظاهره، أنه جاء على غير الترتيب الذي يقع في نفس المؤمن، من مشاهد القيامة.. فالظاهر أن يؤمن المؤمن أولا بأن الساعة حق، ثم تكون خشيته، ويكون إشفاقه من لقائها.. ولكن النظم القرآنى قدم الخشية للقيامة، والإشفاق منها، على العلم بها وبأنها حق.. هذا ما يبدو في ظاهر الأمر.
والذي ينظر في النظم القرآنى، يرى أن الإشفاق قد تقدمه الإيمان، فالذين يشفقون من الساعة هم الذين آمنوا باللّه وباليوم الآخر.. كما يقول سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها}.
إذ لا يكون المؤمن مؤمنا باللّه إلا إذا كان مؤمنا باليوم الآخر.. أما العلم فهو مادة من المعرفة التي يؤيدها الدليل، ويدعمها البرهان، حيث يجىء إلى الإيمان الغيبى، فيؤكده، ويثبت دعائمه في القلب.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} هو حكم على الذين يشكّون في الساعة، ويكذبون بها، ويمارون ويجادلون فيها- حكم عليهم بالضلال البعيد عن الحق: {فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ؟} [32: يونس] وماذا بعد الضلال إلا البلاء وسوء المصير؟.
قوله تعالى: {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ} يشير إلى ما للّه سبحانه وتعالى من لطف بعباده، ورحمة بهم، إذ بعث فيهم رسوله، وأنزل إليهم كتابه هدّى ورحمة.
وقوله تعالى: {يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ} إشارة إلى أن هذا الرزق الذي يسوقه اللّه سبحانه من لطفه ورحمته، هو رزق الإيمان، والهدى، ففى هذا الرزق تزكية النفوس وطهارتها بالإيمان وتقبلها للهدى، واتصالها بالملأ الأعلى، واستعدادها لدخول هذا الملأ، في جنات النعيم.
وقوله تعالى: {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} إشارة إلى أنه سبحانه هو صاحب السلطان، المتصرف في ملكه كما يشاء، لا ينازعه أحد فيما يسوق من لطفه ورحمته إلى من يشاء من عباده.
قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}.
أي هذا رزق اللّه- من هدى ونور- ممدود مبسوط.. فمن كان يريد الهدى والإيمان، ويعمل للآخرة، ويغرس في مغارس الإحسان، يزد له اللّه سبحانه وتعالى فيما غرس، ويبارك عليه، ويضاعف له الجزاء أضعافا مضاعفة.
ومن أعرض عن الآخرة، وعمل للدنيا، وغرس في مغارسها، أخذ ثمر ما غرس في دنياه، واستوفى نصيبه منه، حتى إذا جاء إلى الآخرة، جاءها ولا نصيب له في خيرها.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ، لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً}! (18- الإسراء).

1 | 2 | 3